حديث (دخل رجل الجنة في ذباب..) موقوف
رقم الفتوى: 98868
التصنيف: الحديث الموقوف
سؤالي عن صحة الحديث (عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب! قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب! فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة" رواه الإمام أحمد في الزهد. لأن هنالك من يقول إن هذه الرواية هي من طريق الأعمش وهو مدلس وقد عنعن فالرجاء تقديم السند كاملا مع التفصيل العلمي حول صحته أو عدمها؟
الإجابــة
خلاصة الفتوى:
الحديث لم يصح مرفوعاً والصحيح وقفه على سلمان.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الحديث المذكور رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، وأبو نعيم في حلية الأولياء بسنديهما كلاهما من طريق الأعمش، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله أخبرنا أبي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان قال: دخل رجل الجنة في ذباب... وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه ثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير وأبو معاوية عن الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان رضي الله عنه قال: دخل رجل الجنة في ذباب...
وقد أعله أهل العلم بثلاث علل:
الأولى: عنعنة الأعمش، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر: سليمان بن مهران الأعمش محدث الكوفة وقارئها وكان يدلس، وصفه بذلك الكرابيسي والنسائي والدارقطني وغيرهم.
الثانية: احتمال إرساله لأن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت له صحبة، وهذا في الحقيقة ليس بعلة لأن مثل طارق بن شهاب غالب رواياته عن الصحابة، وقد قال فيه العلامة ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح. على أن سند هذا الحديث قد ثبتت فيه رواية عن سلمان وبهذا انتفت شبهة الإرسال.
الثالثة: أن الأثر موقوف على سلمان ويحتمل أنه من روايته عن أهل الكتاب، وهذه العلة لا شك أنها مؤثرة في رفع الأثر فلا يكون له حكم المرفوع؛ ولكنها لا تمنع من صحته موقوفاً على سلمان.-------------------------
ومن موقع فرسان السنة
فوائد في تخريج حديث " دخل رجل النار في ذباب "
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه .. أما بعد :
ففي كثير من شروح الشيخ العالم العلامة الإمام محمد بن صالح بن عثيمين – رحمه الله تعالى – أنكر صحة حديث طارق بن شهاب : دخل رجل النار في ذباب .. الخ
وصرح بعدم صحته في شرحه على بلوغ المرام .. وقال في تعليقه على كتاب التوحيد كما في مجموع فتاواه ورسائله (9/176) : في الحديث علتان :
الأولى : أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا في صحبته ، والأكثرون على أنه صحابي .
لكن إذا قلنا : إنه صحابي ؛ فلا يضر عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن مرسل الصحابي حجة ، وإن كان غير صحابي ؛ فإنه مرسل غير صحابي ، وهو من أقسام الضعيف .
الثانية : أن الحديث معنعن من قبل الأعمش ، وهو من المدلسين ، وهذه آفة في الحديث ؛ فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين .
ثم للحديث عله ثالثة ، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفا من قوله ، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة ؛ فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل . اهـ
أقول : جزى الله شيخنا الإمام على بحوثه الجيدة وتفصيلاته الممتعة ..
وللعلم أقول لكثير من الشباب إخواني من طلاب العلم ، الذين يصفون الشيخ بأنه فقيه وليس له باع في علم الحديث !!
كذا قالوا .. هداهم الله ، ولو أمعنوا النظر في مصنفاته وفتاواه ، لوجدوا في كثير من بحوثه مناقشة للأسانيد أو المتون والحكم عليها حكم الخبير بعلم الحديث ومصطلحه ، إلا أنهم رأوا قلة تعليقه فظنوا أنه لعدم الخبرة والتبحر ..
وما بثه الشيخ رحمه الله تعليقا على أسانيد ومتون حديثية هو من قبيل الاختصار الذي يأتيك بالخلاصة المفيدة إذ المقام مقام شرح فقهي أو تأصيل والتوسع في التخريج لا يفيد كثيرا ، فكانت منه تلك الزبد التي يراها أهل الحديث حجة قوية في قبوله أو رده لبعض الأخبار لعلمهم أن الشيخ من أهل الحديث في الجملة وله شروح على بعض كتب المصطلح ، فلله الحمد على توفيقه ونسأل الله أن يرحم شيخنا ويجزيه خير الجزاء على ما قدم خدمة للأمة ..
وبالنسبة لموضوعنا :
فالعلة الأولى في صحبة طارق بن شهاب بينها الإمام ابن حجر بترجيح صحبته كما هو رأي الجمهور ، وصحح عنه روايته : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر ..
وهو حديث صحيح رواه أحمد (4/314) والبخاري في التاريخ الكبير (4/353) والضياء في المختارة (3/233) عن الإمام الدارقطني وذكر قوله : ذكر أحاديث رجال من الصحابة رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم رويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا يطعن في ناقليها ولم يخرجا من أحاديثهم شيئا يعني البخاري ومسلما فيلزم إخراجها على مذهبهما ، فذكر طارق بن شهاب رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر.
أما عن عدم سماعه فغايته أن يكون مرسل صحابي وهو صحيح على رأي الجمهور .. هذا إذا كان الحديث مرفوعا ، لكن الصحيح أن طارق بن شهاب رواه عن سلمان الفارسي موقوفا كما أشار إليه الشيخ وكما سيأتي .
والعلة الثانية وهي تدليس الأعمش ليست بمؤثرة لمجيء الأثر من طريق آخر
قلت المدن : فإن كان الطريق الآخر ضعيفا فلا يتقوي الضعيف بمثلة ، .
والعلة الثالثة وهي صحيحة كما سيأتي فيضعف الحديث مرفوعا ويصح موقوفا ..ق
وإليكم التفصيل :
نص الأثر
عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال :
دخل رجل الجنة في ذباب ، ودخل رجل [ آخر ] النار في ذباب [ قالوا وما الذباب ؟ فرأى ذبابا على ثوب إنسان فقال هذا الذباب ] .. قالوا : وكيف ذاك ؟
قال : مر رجلان [ مسلمان – ممن قبلكم ] على قوم قد عكفوا على صنم لهم وقالوا لا يمر علينا اليوم أحد إلا قدم شيئا فقالوا لأحدهما : قدم [ قرب ] شيئا ؟ فأبى فقتل ، وقالوا للآخر : قدم [ قرب ] شيئا ؟ فقالوا : قدم [ قرب ] ولو ذبابا ؟ فقال : وإيش ذباب ؟ فقدم [ قرب ] ذبابا فدخل النار ، فقال سلمان : فهذا دخل الجنة في ذباب ، ودخل هذا النار في ذباب .
رواية ابن أبي شيبة
رواه ابن أبي شيبة في المصنف ( 6/473 رقم 33038 ) حدثنا وكيع قال ثنا سفيان عن مخارق بن خليفة عن طارق بن شهاب عن سلمان قال :
دخل رجل الجنة في ذباب ، ودخل رجل النار ، مر رجلان على قوم قد عكفوا على صنم لهم وقالوا لا يمر علينا اليوم أحد إلا قدم شيئا ، فقالوا لأحدهما : قدم شيئا ؟ فأبى فقتل ، وقالوا للآخر : قدم شيئا ؟ فقالوا : قدم ولو ذبابا ؟ فقال : وإيش ذباب ؟ فقدم ذبابا فدخل النار ، فقال سلمان فهذا دخل الجنة في ذباب ودخل هذا النار في ذباب.
رواية البيهقي في الشعب
ورواه البيهقي في شعب الإيمان ( 5/485 رقم 7343 ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ نا أبو نا العباس بن محمد الدوري نا محاضر بن الوزع ( كذا !! وصوابه: المورع ) نا الأعمش عن الحارث عن شبل ( وصوابه شبيل ) عن طارق بن شهاب عن سلمان قال : مر رجلان مسلمان على قوم يعكفون على صنم لهم فقالوا لهما : قربا لصنمنا قربانا قالا : لا نشرك بالله شيئا قالوا : قربا ما شئتما ولو ذبابا فقال : أحدهما لصاحبه ما ترى ؟ قال : أحدهما لا نشرك بالله شيئا فقتل فدخل الجنة فقال الآخر بيده على وجهه فأخذ ذبابا فألقاه على الصنم فدخل النار.
رواية أحمد في الزهد
وهو في الزهد للإمام أحمد أو لابنه على الصحيح (1/15-16) وفي العلل كما سيأتي حدثنا عبد الله أخبرنا أبي حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سليمان [ والصحيح سلمان ] قال :
دخل رجل الجنة في ذباب ودخل النار رجل في ذباب ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا لأحدهما : قرب ؟ قال : ليس عندي شيء ، فقالوا له : قرب ولو ذبابا ، فقرب ذبابا ، فخلوا سبيله قال فدخل النار ، وقالوا للأخر قرب ولو ذبابا ؟ قال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل قال فضربوا عنقه فدخل الجنة .
ومن طريقه رواه الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية (1/185) .
رواية إسحاق بن راهويه في الحلية
وفي حلية الأولياء ( 1/203 ) : حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد ( الغطريفي ) الجرجاني ثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه ( راوي مسند إسحاق ) ثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير وأبو معاوية [ كلاهما ] عن الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال : دخل رجل الجنة في ذباب ودخل آخر النار في ذباب ، قالوا : وكيف ذاك ؟ قال : مر رجلان ممن كان قبلكم على ناس معهم صنم لا يمر بهم أحد إلا قرب لصنمهم فقالوا لأحدهم : قرب شيئا ؟ قال : ما معي شيء ، قالوا : قرب ولو ذبابا ؟ فقرب ذبابا ومضى فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب شيئا ؟ قال : ما كنت لأقرب لأحد دون الله ، فقتلوه فدخل الجنة .
وقال أبو نعيم الحافظ عقب روايته تلك :
رواه شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق مثله ، ورواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان نحوه . اهـ
تحقيق التخريج
فأفاد هذا التخريج أن هذا الأثر رواه عن سلمان الفارسي حيان بن مرثد كما ذكره أبو نعيم معلقا ، وجميع من رواه إنما هو عن طارق بن شهاب .
- فأما رواية حيان بن مرثد عن سلمان ففي حلية الأولياء 1/203 فقط فيما أعلم ..
ومع قلة من ترجم لحيان بن مرثد فقد جاء في الطبقات الكبرى 6/235 والإكمال لابن ماكولا 2/311 قول وكيع : روى عن علي وسلمان رضي الله عنهما وروي عنه المنهال .. وهذا ما نحتاجه هاهنا .. لأن أبو نعيم في الحلية بعد روايته للأثر اتبعه سنداً آخر فقال : ورواه جرير عن منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرثد عن سلمان نحوه .
فأما جرير : ( ت 188 ) فهو جرير بن عبد الحميد ثقة حافظ .
وأما منصور : فهو ابن المعتمر ثقة حافظ ثبت روى عنه جرير والأعمش وحدث عن المنهال لأنه ( أي منصور ) من أقران الأعمش وقد حدث عن المنهال .
وأما المنهال بن عمرو : فقد حدث عنه الأعمش ووثقه ابن معين وقال في التقريب( صدوق ربما وهم ) كما في ترجمة 6918.
ولكن المشكلة أننا لا نعلم سند الحافظ أبا نعيم إلى شعبة وجرير !!
الطرق عن ابن شهاب
فنركز على من رواه عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي وهم أربعة :
مخارق بن خليفة والحارث بن شبيل وسليمان بن ميسرة وقيس بن مسلم ..
- فأما رواية مخارق بن خليفة ففي مصنف ابن أبي شيبة 6/473 رقم 33038 ومخارق ثقة عن طارق بن شهاب وعنه شعبة كما في الكاشف .. ورواه عن مخارق سفيان الثوري وعنه وكيع .
وأما رواية الحارث بن شبيل فرواها محاضر بن المورع عن الأعمش عنه عند البيهقي في شعب الإيمان (5/485 رقم 7343 ) وهو الحارث بن شبيل البجلي بالتصغير الكوفي - وهو ثقة - وقال الذهبي في الكاشف : عن طارق بن شهاب ، وعنه الأعمش.
تفرقة : وهو غير الحارث بن شبل البصري وهو ضعيف وتوثيق ابن حبان له مخالف لمن جرحه وهم أئمة كبار على رأسهم يحيى بن معين قال: ليس بشئ وضعفه الدارقطني وقال البخاري في تاريخيه : ليس بمعروف الحديث .. وقال أبي حاتم : منكر الحديث .
ومحاضر هو ابن المورع الهمداني اليامي ويقال السلولي ويقال السكوني ، أبو المورع الكوفي وهو من صغار أتباع التابعين توفي في 206 هـ وروى له البخاري- تعليقا - ومسلم وأبو داود والنسائي ورتبته عند ابن حجر: صدوق له أوهام ، ورتبته عند الذهبي: صدوق مغفل ، ولذلك شذ محاضر في روايته عن الأعمش بذكره أن الرجلان مسلمان .. ويمكن التوفيق ..
- وأما رواية قيس بن مسلم ففي حلية الأولياء 1/203 معلقا ، وهو قيس بن مسلم الجدلي ثقة ثبت كما في التقريب والكاشف .. وعنه شعبة الإمام العلم .
- وأما رواية سليمان بن ميسرة ففي الحلية 1/203 والزهد لأحمد 1/15 من زيادات عبد الله ، وسليمان بن ميسرة يروى عن طارق ابن شهاب الأحمسي وروى عنه الأعمش . ( كما في التاريخ الكبير للبخاري 1880 وثقات ابن حيان رقم 3053 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4/143) ورواه عن سليمان بن ميسرة الأعمش كما في الزهد والحلية والعلل لابن أبي حاتم .
وعن الأعمش أبو معاوية في الزهد وعلل ابن أبي حاتم وتابعه جرير في الحلية .
أما باقي الرجال في هذه الأسانيد فهم الأئمة الجبال :
وكيع : وهو أبو سفيان وكيع بن الجراح ثقة عابد حافظ .
أبو معاوية : وهو الضرير محمد بن خازم ثقة من أثبت الناس في الأعمش .
سفيان الثوري : أمير المحدثين يحكم على الرواة ولا يحكم عليه .
الأعمش : ( ت 148 ) هو سليمان بن مهران ثقة حافظ .
شعبة : ( ت 160 ) هو ابن الحجاج ثقة حافظ وهو أمير المؤمنين في الحديث .
وعليه : فالحديث بهذه الأسانيد مجتمعة صحيح ، موقوفا على سلمان الفارسي إن شاء الله تعالى .
فائدة في وهم من ذكره مرفوعا
وما رأيت أحداً رفعه إلا ابن القيم في الداء والدواء ونسبه لأحمد هكذا وهو يوهم أنه في المسند وإنما هو في الزهد من زوائد عبد الله كما هو ظاهر في سنده .
واتبع ابن القيم في هذا الوهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد ، واتبعه على ذلك الشارح في فتح المجيد والوهم من وجهين :
الأول : أنهم جعلوه من مسند طارق بن شهاب مرفوعا وهذا لم يوجد .
الثاني : أن المتبادر من العزو لأحمد أنه في المسند والصحيح أنه في الزهد .
فائدة عن ماهية الرجلين
تعلق البعض على ظاهر بعض روايات هذا الأثر فجزم أنه من الإسرائيليات ، بينما احتمل ذلك الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ..
وعلى هذا فلا يصدق ولا يكذب ، نظرا للقاعدة النبوية المشهورة ..
وليس الأمر كذلك لوجهين :
الأول : أن في القصة أن أحد الرجلين دخل الجنة والآخر دخل النار وهذا لا يعلم إلا بالوحي كما هو ظاهر .. وعليه نرجح أن الأثر في حكم المرفوع .
الثاني : أن الزيادة عند البيهقي أنهما كانا مسلمان من طريق محاضر وشذ فيها عمن رواه عن الأعمش بلفظ رجلين ممن قبلكم .. وعند أحمد : كان رجلان .. بلا تعيين دين أو زمن ، ولكن في الروايات كلها أنهما مرا على قرية فيها صنم ، فأفاد ذلك قرب العهد من البعثة النبوية إن كانت القصة في أرض العرب .
أما إذا كانت في أمة من الأمم التي قبلنا ، فلا ضير إن قلنا أنهما مسلمان ، فقد يكونا على دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أو غيرهما من أنبياء الله عز وجل ، فالإسلام دين الأنبياء جميعا ..
وقد نصحح الرواية على هذا المعنى الوارد في الروايات مجموعة فيكون ما عند أحمد وابن أبي شيبة : رجلان بلا تعيين ، وما عند البيهقي : رجلان مسلمان ، وما في الحلية : رجلان ممن قبلكم .. فنقول : ( رجلان – مسلمان – ممن قبلكم ) ونكون بذلك جمعنا زياداته كلها ولا تعارض حينئذ . إن شاء الله تعالى .
فائدة في عجمة سلمان
قال عبد الله بن أحمد : سَمِعتُهُ يقول ( يعني أباه ) : في حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سليمان بن ميسرة ، عن طارق بن شهاب ، عن سلمان قال : دخل رجل الجنة في ذباب . قال أبو معاوية : قال الأعمش : دباب [ بالدال المهملة ] يعني أن سلمان كان في لسانه عجمة .
( العلل - 1596) وذكرها الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية (1/185) باب في إتباع المحدث على لفظه وان خالف اللغة الفصيحة .
هل قرب الرجل ذبابة حقيقية ؟
قد يقول البعض ما معنى أنه قرب للصنم ذبابة ، وهل الذبابة قربان ؟ أم أن المقصود أنه قرب قدر ذبابة من أي شيء ؟
قلت : ظاهر النص أنه قرب ذبابة حقيقية بدليل رواية البيهقي في الشعب ( 9/ 457) بلفظ : فقال الآخر : بيده على وجهه فأخذ ذبابا فألقاه على الصنم فخلوا سبيله فدخل النار.
وجه الاستدلال بهذا الحديث
والحديث ساقه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد باب : ما جاء في الذبح لغير الله .. مستدلا به على النهي للذبح لغير الله ولو بقدر ذبابة أو على الصحيح ولو بذبابة ، وأن من فعل هذا غير مكره عالما بالتحريم فقد استحق النار لأنه شرك بالله تعالى .
قال رحمه الله تعالى : باب ما جاء في الذبح لغير الله : وقول الله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 162- 163 ] وقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [ الكوثر : 2 ] .
وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : بأربع كلمات : « لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا ، لعن الله من غير منار الأرض » . رواه مسلم .
وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال – فذكره مرفوعا منسوبا لأحمد كما مر - .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } .
الثانية : تفسير : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } .
الثالثة : البداءة بلعنة من ذبح لغير الله .
الرابعة : لعن من لعن والديه ، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك .
الخامسة : لعن من آوى محدثا ، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله ، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك .
السادسة : لعن من غير منار الأرض ، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض فتغيرها بتقديم أو تأخير .
السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم .
الثامنة : هذه القصة العظيمة ، وهي قصة الذباب .
التاسعة : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم.
العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلباتهم ، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر .
الحادية عشرة : أن الذي دخل النار مسلم ، لأنه لو كان كافرا لم يقل : " دخل النار في ذباب " .
الثانية عشرة : فيه شاهد للحديث الصحيح : " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك " .
الثالثة عشرة : معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان . اهـ
قال في القول السديد شرح كتاب التوحيد (1/54) :
باب ما جاء في الذبح لغير الله ، أي أنه شرك ، فإن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الأمر بالذبح لله ، وإخلاص ذلك لوجهه ، كما هي صريحة بذلك في الصلاة ، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه .
وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات ، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام ، فإن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده : ( أن يصرف العبد نوعا من أفراد العبادة لغير الله ) .
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص ، وصرفه لغيره شرك وكفر .
فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء .
كما أن حد الشرك الأصغر هو : ( كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة ) .
فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر ، فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب ، وبه يحصل لك الفرقان بين الأمور التي يكثر اشتباهها والله المستعان . اهـ
فائدة في أن الناجي منهما كفر
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – في التعليق على كتاب التوحيد من مجموع فتاواه ورسائله (9/181) : أن الذي دخل النار مسلم ؛ لأنه لو كان كافراً لم يقل : دخل النار في ذباب ، وهذا صحيح ، أي أنه كان مسلماَ ثم كفر بتقريبه للصنم ؛ فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار ، ولو كان كافراً قبل أن يقرب الذباب ؛ لكان دخوله النار لكفره أولى ، لا بتقريبه الذباب . اهـ
فائدة لابن حجر العسقلاني
في شرح حديث : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم . رواه البخاري رقم 5445 :
قال : الذباب بضم المعجمة وموحدتين وتخفيف ..
قال أبو هلال العسكري : الذباب واحد والجمع ذبان كغربان والعامة تقول ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة وهو خطأ وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ ..
وقال الجوهري : الذباب واحده ذبابة ولا تقل ذبانة ونقل في المحكم عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز ما زعم العسكري أنه خطأ وحكى سيبويه في الجمع ذُبّ وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله والتشديد ..
وقيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه .. وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا : عمر الذباب أربعون ليلة والذباب كله في النار إلا النحل .
وسنده لا بأس به وأخرجه ابن عدي دون أوله من وجه آخر ضعيف ..
[ قلت : رواه أبو يعلى في مسنده (7/231) عن أنس والطبراني في الكبير (12/398) والأوسط (4/11) وعبد الرزاق (5/213) وابن أبي شيبة (4/451) عن ابن عمر وفي الكبير (11/65) عن ابن عباس وفيه (10/208) عن ابن مسعود وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/60) : عن أنس بن مالك وقال رجاله ثقات . وقال ابن حجر: لا بأس به ، قلت : حسن بمجموع طرقه إن شاء الله تعالى ]
قال الجاحظ : كونه في النار ليس تعذيبا له بل ليعذب أهل النار به .
قال الجوهري : يقال إنه ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب .
وقال أفلاطون : الذباب أحرص الأشياء حتى أنه يلقى نفسه في كل شيء ولو كان فيه هلاكه ويتولد من العفونة ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها والجفن يصقل الحدقة فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها ..
ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة وهو من أكثر الطيور سفادا ربما بقي عامة اليوم على الأنثى .
ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي لأي علة خلق الذباب ؟ فقال مذلة للملوك.
وكانت ألحت عليه ذبابة فقال الشافعي سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة .
وفي المسند [ في قصة جرت بين سعيد بن أبي خالد مع أبي سلمة ] عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فأمقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء .
رواه أحمد 3/67 وغيره وجاء عن أبي هريرة وصححه الألباني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق